عندما تأكدنا أن الحرب واقعة، ولا شك، أدركنا فوراً أنها لن تكون حرب لبنان كله، لا اعرف ماذا انتظر سكان الضاحية الجنوبية، ماذا انتظرت قرى وبلدات لبنان الجنوبي. لا بد أن ليل هؤلاء لم يكن كليلنا. نحن الذين نسكن في بيروت، بعيداً، وعلى حدود الضاحية، أو نسكن في الشمال أو الجبل. لم يكن ليلهم كليلنا نحن الذين لا نسكن في بعض البقاع، وباختصار لم يكن لبنان طائفياً فحسب، لم تكن معاركه الداخلية طائفية ولم يخض حرباً أهلية بين معسكريه الطائفتين الكبيرين، المسيحية والإسلام فحسب، بل ان حروبه الخارجية ذات وجه طائفي أيضاً. الحرب القومية ضد إسرائيل التي خاضها الجيش المصري بكامله في يوم، والجيش الأردني برمته والجيش السوري كله في معركة انقلبت على الجيوش الثلاثة، هذه الحرب التي هي قدر الفلسطينيين كلهم. تتحول في لبنان إلى حرب مع شبه فريق طائفي، وتغدو حرب إسرائيل ضد الضاحية والجنوب وبعض البقاع.
لم تتأخر إسرائيل، بدأت في دكّ الضاحية والجنوب، كان قسم من الشعب اللبناني، قسم فحسب، تحت رحمة الطيران الإسرائيلي. كانت بقاع من الأراضي اللبنانية، بقاع فحسب تحت القصف الجوي والبري. في الجنوب والبقاع سنة ومسيحيون إلى جانب الشيعة وسيشاركونهم مصائرهم، بل قد يتقصدهم الإسرائيليون بمثل ما يتقصدون به الشيعة وسيدفعون بالتأكيد الثمن نفسه لكنه الاشتراك في الأرض والجيرة الخطرة هي التي تحكم.
كانت هناك بيروت الآمنة، بيروت التي لا تزال مقاهيها وفنادقها وصالاتها ومبانيها آمنة. لا تزال حاشدة مأهولة عامرة، بل زادت حشداً على حشد. كنا نمشي فيها ونتنزه في مرافقها ونبترد في شوارعها من حر تموز ونتمتع بملاهيها. لم نخف فنحن نعلم ان لا شيء يتهددنا في الحمرا والأسواق والظريف وبرج أبو حيدر والمزرعة، هذه جميعها زاهرة آمنة، مزدهرة أما الضاحية المجاورة اللصيقة بها فتحت عقاب دامٍ وكل فرد فيها معرض لأن يندفن تحت الردم، كل فرد فيها معرض لحساب عسير، كل فرد فيها قد يشق عليه ان ينبش عن أطفاله وأن يستخرجهم من تحت الركام. لم تكن حرب إسرائيل مع دولة أو مع جيش. كانت مع فريق لبناني ومع مناطق من لبنان. كان بين المناطق الخطرة وغير الخطرة طرفة عين. المناطق الخطرة هي بالطبع ساحات رعب وموت، المناطق الخطرة ساحات قصف حر وقتل حر. كنت في الظريف من بيروت بعيداً عن بنت جبيل مسقط رأس أبي، عن جبع مسقط رأس أمي، عن صور مدينة تربيتي، عن الضاحية التي صارت ملاذ الجنوبيين والبقاعيين بعد ان هجروا من برج حمود والنبعة. الضاحية التي تحولت إلى نوع من مدينة انتقالية، أي فائض حياة وفائض باطون كما قلت في نص لي بعنوان «قصيدة ممكنة للضاحية». مدينة انتقالية هي الضاحية. هي بالنسبة لكثيرين محطة عبور ومعسكر تجميع، بالنسبة لكثيرين وطن انتقالي إذا صح التعبير، وطن احتياطي أو معسكر احتياطي. حين صارت الضاحية تحت القصف. تساءلت أين أنا منها، في هذا العبور من شحور إلى صور إلى بنت جبيل إلى صيدا إلى بيروت، أين أنا من الضاحية. مر وقت كان لي فيها أقارب وأصدقاء وكنت أزورهم فيها، نسهر ونأكل ونشرب ونقرأ ونسمع ما يقرأون ثم لا أدري لماذا انقطعت عنها. هل انقطعت عن أقاربي وأصدقائي أم انهم هم الذين انقطعوا عنها وعني.
كانت الضاحية في يوم ولأيام طويلة منطقة وسطى بين مساقط رؤوسنا وبلدان تربيتنا وبين العاصمة التي هي نصف لبنان، والتي كنا على اعتابها نتسرق لنصل، في النهاية إليها. العاصمة التي لا تحتاج إلى أن نكون ولدنا فيها، ولا نحتاج إلى ان يكون لنا فيها أهل وأقارب وإلى ان نكون فيها وسط بلدياتنا، وإلى ان يكون لنا فيها خليط من عدة بلدان، وخليط من عدة أجواء وعدة أمزجة، لكن الجامع هو الانتقال وهو الترحل وهو شيء كاللكنة ومجموعة رموز مشتركة وكثافة اجتماعية وشيء كالبساطة وربما الإهمال وربما العفوية وربما الأخبار والتراث والقرابات والعادات والميراث اللغوي والأدبي والطرف والتسليات. تساءلت اين أنا من الضاحية إذا كانت الضاحية هي ذلك كله، أين أنا من الضاحية إذا لم يكن بعدي عنها هو آية اغترابي عن وسطي وجماعتي. إذا لم يكن بعدي عنها هو اجتنابي لكل هذه الكثافة التي عمت زمناً فيها وهو خروجي من هذا الحوض الذي لم اطل سباحتي فيه. خروجي الذي لم أكسب نفسي بدونه ولم أكن أنا لولاه ولم أصل إليه بالجهد والتعب والجلد الطويل وإنما وجدت نفسي وقد مارسته وارتضيته من غير مشقة ولا عنت ولا مجالدة للنفس، مثلي في ذلك مثل لذات الكثيرين الذين استسهلوا الخروج من الجماعة، بل استأنسوا بذلك ولم يجدوا فيه قطع آصرة ولا تفكيك روابط ولا انسلاخاً مؤلماً ولا نزيفاً صعباً. وانما طاروا إليه او ساروا خطفاً ولم يأسفوا عليه ولا تحسروا كأنهم ولدوا فيه، ووجدوا في نفوسهم استعداداً له وقابلية فلم يواخذوا أنفسهم على شيء منه، وانزووا، بدون ان يشعروا بالخسارة، عن أهلهم وقراباتهم وجماعتهم، واستسلموا للون من الحياة لا يشتركون فيه مع وسطهم إلا في قليل القليل، ويسيرون فيه على منهاج يأباه عليهم وسطهم ومجتمعهم. بل انهم في لهوهم ومأكلهم وشرابهم يخالفون من حولهم اشد مخالفة وأصعبها. إن لهم مجتمعاً خاصاً ووسطاً خاصاً وهم في ذلك منقطعون مغتربون يسيرون على نمط لا يتابعون فيه أحداً، فقد انزووا واختاروا ان ينعزلوا في ثلة قائمة بنفسها.
لم اظن انه سيأتي يوم نتحسر فيه على هذه العزلة ونحنُّ إلى أواصرنا بعامة الناس، حتى كانت الحرب ورأينا وسطنا ومجتمعنا تحت النار. إذ ذاك شعرنا بأننا تركنا أوساطنا لهذه النار وكأننا جرّيناها عليهم. تركناهم لها وكأننا لم نحسب لهم حساباً. انفصلنا عنهم وأبحناهم لمصائرهم الخطرة. بل ارتضينا لهم الدمار والقتل ونجونا منهما. ابحناهم للخطر وفررنا بأنفسنا. تركناهم، هم جماعتنا وهم دمنا وهم اترابنا وهم أهلنا للقصف والنار ولم نتكبد أيّاً منهما. كان علينا ان نذوق ما يشبه الخيانة. كان علينا ان نستشعر بأننا جازفنا بشراييننا وتركنا دمنا ينزف على الأرض وأرخصنا لحمنا. لم نكن غشينا الضاحية منذ وقت طويل. هجرناها وانسلخنا عنها. هي اشهر وربما سنين لم نضع فيها قدما، هي اشهر وربما سنين لم ندسها، الآن وهي تحت النار كان هذا يعذبنا. هذا الوطن الانتقالي، هذا الوطن الاحتياطي، كان علينا ان نؤسس لنا وجوداً فيه. شاهدنا على التلفزيون صور الدمار، لكن شاهدنا ما هو افظع من ذلك، أطفالاً كساهم الغبار. لم يحفر في وجوههم التي بقيت جميلة، لم يخنق الدم تلك النضارة ولا ذلك الجمال. بقيت طفولتهم تلعب وتبتسم وتقفز وتلهو لكن الموت لم يتمثلهم ولا يَبَّسهم ولم يوحّل أجسادهم. كانت أجساداً طرية لدنة نضرة كأنها لا تزال إبان اللعب. كأن الموت لم يجردها من طفولتها، حتى كأنها دمى لم تتحطم. دماهم التي لم تتحطم.
لم يكن صعباً علينا ان نميز أهل الضاحية ينتقلون في بيروت. شيء ما في وجوههم وحركاتهم يدلنا إليهم. دخلت إلى حديقة الصنايع فوجدت الناس ممددين على الأرض تحت الأشجار. بكيت في داخلي وأنا أراهم مكشوفين هكذا للسماء وللشجر. سمعت بمقبرة جماعية هنا وهناك لكن الآباء وهم يرفعون أطفالهم المغبرة من أيديها فجعوني. قرأت مقالاً يقول إن الحروب الحديثة هي حروب على المدنيين. هكذا كان الأمر في البوسنة وهو كذلك في لبنان، حرب على المدنيين، البيوت والجسور والمستشفيات هي الهدف. انها حرب على العُزّل والأطفال.
نشرت في “السفير” اثناء الحرب نصاً بعنوان «قصيدة ممكنة للضاحية» اقتطف منه:
“لا أعرف شاعراً كتب قصيدة عن الضاحية ولا اظن أن قصيدة تغني دمارها ممكنة، سنقرأ بالطبع قوافي وأوزانا لكن من ينتبه. العيون التي فتحتها الصواريخ في المباني ستبقى لفترة طويلة ذات نظرات رهيبة ولن يستطيع الشعراء مقابلتها، لا يعرفون ماذا يفعلون بضلع إسمنتي مكسور. كيف يرون جناحاً باطونيا هاوياً. كيف يتأملون تلك المجلدات الحجرية النائمة على بعضها بعضاً… سيفزعون إذ يسمعون النداءات التي لا تزال تغرغر والتي تحولت إلى نشيد حجري أصم. سيفزعون لأن الموت لا يزال اخضر هنا ويمكن ان ينفجر فجأة كربيع جنوني. لأن شيئاً يمكن ان يدب في هذه التجاويف القمرية. شيئاً من الروح يمكن ان يسري في هذا الكوكب المنهار. أين نجد قافيه بهذا الحجم، يقول شاعر اعتاد على ورد الجنائن. أين نجد وزنا لهذا الزلزال… لنا اسماء على الأحجار وأحجار وقعت كأسماء. لنا فائض الحياة وفائض الباطون. حيث الجدران لا أم لها… لنا شيء تركناه وسط الجريدة، في منتصف الغرفة، في أول الزجاجة، لنا منازل تصنع بكرسي وموائد تنشأ بطبق واحد. لا أحد يطلب كفارة في هذا المكان الذي هو حياتنا والأبواب لا تطرد أحداً”.
نشرت بتاريخ 20/07/2012 في جريدة السفير