أمستردام

مــدن

يسألني جيرار مودال عن المدن التي كتبت عنها. سؤال بديهي. بديهي الى حد أنني لم أكن مستعداً له.

السؤال الذي أطرحه على نفسي ليس عن الكتابة. أسأل نفسي كيف عشت في هذه المدن، عشت تقريبا في ضياع، ضياع فيزيقي. للبعض مخيلة لا أملكها، انهم يعرفون الجهات وأنا لا أملك ان أعرف شمالي من يميني وغربي من شرقي اما الجنوبي غربي مثلا فأمر فوق تصوري. لا أستطيع ان أجمع مدينة في رأسي. البعض لا يحتاجون لأكثر من ان يروا الخارطة فثمة مدينة سابقة على كل المدن، ثمة مدينة اولية في رؤوسهم ولا يحتاجون لأكثر من ان يطابقوها على كل مدينة. انها نعمة لا أملكها. ليست في الأغلب صعبة ولا مستحيلة لكن كثيرة هي الاشياء التي لا نعرف ان نزيل القشة التي تخفيها الى أن تستحيل خشبة وتستعصي علينا.

أعرف الضياع في المدن ولا استطيع في حقيقة الأمر ان أتخيل مدينة. انها اجزاء وقصاصات فحسب. تخيلت مرة انني أحطت بأمستردام ولا أعرف اذا كان هذا صحيحا. لكن باريس رغم عشرات المرات لا تزال بالنسبة اليّ دار غربة ولا أعرف كيف اصل بين شوارعها. انني ارتبها مع ذلك لكن في خارطة خيالية، ارتبها في اكزوتيكا شخصية. لقد جلت فيها كثيرا لكن من يستطيع ان يتحقق من المدى الذي قطعته. في لندن، مرتين او ثلاثا، وجدتني امام الحديقة نفسها. قلت انني درت فيها، من الدوران، وما قطعته كان دائرة فحسب. كم مدينة فرنسية غير باريس، تولوز المدينة الوردية التي كل شيء فيها رمادي. آرل التي رأيت فيها مرتين المسرح الروماني والمستشفى الذي آوى فان غوغ، وبالطبع هناك فنادق ومقاه عديدة لا يبقى منها شيء. امستردام وقنواتها المعتمة السوداء وضرورة ان لا أرى الماء اسود في داخلها. كوبنهاغن والشتاء يدفعني مع ريح خفيفة في ممراتها. باليرمو صقلية حيث وجدت شعبا فخورا بمحتليه وفخورا ايضا، للعجب، بالحقبة العربية، وحيث يتناغم الباروك مع النهضة مع الزخرفة الاسلامية. لاهاي التي لا نصدق انها ليست لوحة لفان غوغ. برلين المدينة الغابة التي تخفي تحفها وراء ابواب ثقيلة. فيينا الامبريالية التي لا أعرف الى الآن كيف يمكن ان نجزئ بيوتها التاريخية الى شقق صغيرة، نحن الذين، بكل فخر، تغدينا في مطعم، وجلنا في متحف وكلاهما في المحل الذي كان الحضيرة الامبراطورية. فرساي التي لم نهتم برؤية قصورها، غرناطة السعيدة حيث في الغالب فقد العرب سعادتهم الى الأبد. طليطلة الشبحية كلوحات غريكو. وبرشلونة الهاربة من البحر ومن المتوسط.

انها مدن، مدن حقيقية، لكن ماذا بقي لي منها. ليس حتى وردة او زرا. احيانا أنسى أسماءها وأحورها، على موهبتي في تحريف الأسماء. أسأل نفسي هل زرتها حقا. ام أن المدن دائما مسحورة وتتخايل لنا بدون ان نراها. هل يمكن ان نملك مدينة في رؤوسنا ومخيلاتنا.

لا أعرف كيف أجيب جيرار مودال. اقول له فقط انها حجة لكي أتكلم بالنيابة عن نفسي.

نشرت بتاريخ 05/11/2008 في جريدة السفير